سورة البقرة (مدنية) وهي أول ما نزل بالمدينة بعد الهجرة وبقيت تنزل على مدى المرحلة المدنية كلها تقريباً أي أنّها رافقت تكوين المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية من بدايتهما.هي أطول سورة في القرآن وعدد آياتها 286.
كيف تخاف وهي معك؟
ورد في فضل سورة البقرة حديثان: الحديث الأول رواه الإمام مسلم: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» تأملوا أيها الأحبة كيف أنّ سورتي البقرة وآل عمران تحاجان - أي تدافعان - عن صاحبهما (الذي حفظهما وعمل بهما وكان يقرأهما كثيراً).
وفي رواية «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلّتان»... إنّ حرَّ يوم القيامة شديد، تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، فتأتي سورة البقرة على من حفظها أو عمل بها أو كان كثير القراءة لها لتظلل عليه... فتأمل قيمة سورة البقرة!..
الحديث الثاني: رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في سورة البقرة يقول «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان». وفي رواية «..لا يدخله الشيطان ثلاثة أيام». وبالتالي فإنَّ الكثير من الناس يحرصون على قراءة سورة البقرة في البيت لمنع الشيطان من دخوله.
أين أصحاب البقرة؟
وأكثر من ذلك، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينادي حين تشتدّ المعركة على المسلمين ويقول أين أصحاب البقرة؟ وكأنَّ أصحاب البقرة أناس مخصوصون وحين يسمعون النداء يهبّون مباشرة لتلبية النداء... ونحن الآن ننادي على الناس ليكونوا من أصحاب البقرة، حتى يكونوا في الدنيا من الصفوة ويوم القيامة من أصحاب الظلّة.
هدف السورة: أنت مسؤول عن الأرض.
الحديث عن هدف السورة يساعدنا على فهم الآيات بتسلسل واكتشاف الروابط بين موضوعاتها المختلفة. واللطيف أن بعض العلماء قال بأن تسمية أقسام القرآن بالسور، لأن كل واحدة منها تشتمل على موضوع واحد، وآيات السورة هي كالسور أو السياج الذي يحيط بهدف السورة ويدور حوله ويخدمه. إذاً لكل سورة محور وهدف واحد، فما هو هدف سورةالبقرة؟ وما هو المحور الذي يجمع 286 آية على مدى جزئين ونصف من القرآن؟
إن هدف السورة هو الإستخلاف في الأرض، وهذا يعني ببساطة «يا مسلمين أنتم مسؤولون عن الأرض». يا من سوف يقرأ سورة البقرة إعلم أنّك مسؤول عن الأرض وهذا منهجك: سورة البقرة..
وكأنّ القرآن يخاطبنا قائلاً اعلموا أنّ الأرض هذه ملك لله، والله هو مالك الكون خلقكم وملَّككم الأرض لكي تُديروها وفقاً لمنهج الله...
السعيد من وعظ بغيره
إنَّ الله تعالى خلال مسيرة التاريخ قد استخلف أمماً كثيرة على الأرض، فمنهم من نجح ومنهم من فشل وقد حان الدور في نهاية المطاف على هذه الأمة، والله تعالى لا يحابي أحد حتى ولو كانت أمة محمَّد صلى الله علي وسلم. فلو فشلت في المسؤولية فإنّها ستستبدل كما استبدلت أمم من قبلها..
هنا نفهم لماذا كانت سورة البقرة أوّل سورة في القرآن بعد الفاتحة فهي التي سترسم معالم المنهج. ولهذا أيضاً نفهم سبب كون هذه السورة أول سورةأنزلت في المدينة، وظلت تنزل طوال السنين التسعة من المرحلة المدنية، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر من مرحلة الإستضعاف في مكة إلى مرحلة بناء الأمة، فكان من الطبيعي أن تنزل السورة في مرحلة البناء لترشد الأمة كيف تكون مسؤولة عن الأرض... فينبغي لكل من يقرأ هذه السورة أن يفهم أن كل آية تطلب منه القيام بالمهمة التي خلق من أجلها: أنت مسؤول عن الأرض لإصلاحها وتعميرها وهدايتها ولا بد أن يعلم الإنسان أنَّ المسؤولية تحتم عليه أن لا يكون فاشلاً في حياته فيأخذ بيد الناس، وينجح في حياته وسيظهر ذلك كله خلال قراءة سورة البقرة.
أقسام سورة البقرة
إنَّ سورة البقرة مقسّمة إلى مقدمة ثم قسمين فخاتمة.
القسم الأول
هو الجزء الأول من القرآن وهو يعرض نماذج لثلاث مجموعات من الناس قد استخلفهم الله قبلنا(سيدنا ادم والسيده حواء عليهما السلام ثم بنى اسرائيل ثم سيدنا ابراهيم عليه افضل الصلاه واتم التسليم ).
والقسم الثاني
يتكون من الآيات (142-283)، وهو عبارة عن أوامر ونواهي يجب على الأمة وأفرادها أن يتبعوها ليستخلفوا.
الجزء الأول من القرآن
هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع:
الربع الأول : يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف. الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام.
الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.
الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف. تجربة سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض.
ثم بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف!
وآخر ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة الفاشلة، للتعلم من الأخطاء السابقة وأخذ الدروس والعبر.
القسم الأول: نماذج ثلاثة
وأول خمس آيات من آيات المقدمة عبارة عن صفات المتقين، ثم آيتان تتحدثان عن صفات الكفار، ثم ثلاث عشرة آية (8-20) عن صفات المنافقين لخطورتهم وكأنّ المقدمة تخاطبك قائلة: «هذه أنواع الناس، فحدّد واختر أي الأصناف تريد أن تكون لأنَّ واحداً فقط من هذه الأصناف سيجعله الله تعالى مسؤولاً عن الأرض».
ولاحظ أن أول صفة للمتقين هي "الذين يؤمنون بالغيب". فأهم صفات الأمة المسؤولة عن الأرض هي الإيمان بالغيب وأخطر صفة في الأمة السابقة هي المادية الشديدة وعدم الإيمان إلاّ بما تراه أعينهم، كما سيتبين معنا.
أوّل تجربة استخلاف: آدم عليه السلام
وبعد ذلك تبدأ السورة بسرد قصة آدم عليه السلام وتجد أمامك آية محورية في بداية القسم الأول الذي يلي المقدمة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً (30)فأنت أيها الإنسان مسؤول عن الأرض وقد كان أبوك آدم عليه السلام مسؤولاً عنها أيضاً فالأرض ليست مسؤولية البعيدين عن الله ولا الناكرين لمنهجه. فالأصل أنَّ المسؤول عنها كان أبو البشر آدم عليه السلام. ولاحظ أنَّ رد الملائكة وسؤالهم ليس اعتراضاً على حكم الله (والعياذ بالله) لكنه خوفهم من الإستبدال وبيانهم أنهم لم يفعلوا ما يغضب الله، فكل أوقاتهم تسبيح وعبادة لكن الله قال لهم: (إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). علّم الله آدم تكنولوجية الحياة والآية التالية هي أيضاً آية محورية: (وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلاسْمَاء كُلَّهَا (31).
وماذا يعني ذلك!
يعني أنّه تعالى علَّم آدم طبيعه الحياه ومنهجيتها بما فيها أسماء المخلوقات ووظائفها من شمس وقمر وبحر وشجر وثمر. وكان في المعنى تحذيراً للمؤمنين من أن يظنوا بأنهم سيكونون مسؤولين عن الأرض بدون أن يعرفوا طريقة إدارتها وهنا لفتة لطيفة في الآية 22(ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء) ففي هذه الآية يبين لنا الله تعالى أدوات الإستخلاف: تسخير الأرض والسماء والزرع...
فهنا تحذير لعدم فهم الإسلام أنّه صلاة وصيام فقط، دون ان يفهم المؤمنون كيف يديرون الحياة والأرض، فالله عزّ وجل قد علّم آدم كيف يدير الأرض حتى يفهمنا أن الأمور لا تدار بالتديّن فقط ولكن بالعلم والتكنولوجيا.
المعصية هي سبب الإستبدال
وتأتي الآية التالية 36 لتبيّن لنا تجربة آدم مع ابليس (فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ (36).وهنا دلالة أنّ المعصية هي سبب الإستبدال، كأنَّ الآية تخاطبنا في زماننا هذا لتقول: يا أمة محمد، لقد بقيتم 1300 سنة مسؤولين عن الأرض وما حصل لكم في المئة سنة الأخيرة هو بسبب معصيتكم كما حصل لأبيكم آدم عليه السلام، (مع بُعْد التشبيه بين زلة آدم عليه السلام نبي الله وبين المعاصي الفادحة التي تقع بها الأمة ليل نهار) فتعلموا من الأخطاء السابقة واجتنبوا المعاصي ليعود الإستخلاف إليكم.
وتمضي الآيات في الحديث عن قصة سيدنا آدم حتى نصل إلى الآية 38 (قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38).وهنا نتذكر أنّ الهدى الذي سيأتي من عند الله تعالى قد ذكر في أول السورة على أنه القرآن (ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ)، ونحن ندعو الله في الفاتحة أن نسير على هذا الهدى (ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) فهل بدأت أخي المسلم تستشعر معي حلاوة القرآن وترابط آياته.
تجربة بني إسرائيل
تبدأ تجربة بني إسرائيل بالآية 40 من سورة البقرة لتبيان فشلهم في امتحان مسؤوليتهم عن الأرض.
باب المهمة: تذكر النعم.
وأول آية في هذا السياق تقول: (يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ).فأول آية يخاطب الله بها بني إسرائيل (ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ) وأول كلمة خاطبنا الله إياها في منهجنا (ٱلْحَمْدُ لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ). وكأنَّ بداية مسؤولية واستخلاف كل أمة تكون بتذكّر نعم الله تعالى.
نماذج نعم الله تعالى على بني إسرائيل
وبعد هذه الآية يبدأ الله تبارك وتعالى بتعداد نماذج من هذه النعم فيقول لهم في الآية 50: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ويقول لهم في الآية 52 (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ويقول أيضاً في الآية 57 (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
آيات متتالية تتحدث عن النعم ثم تنتقل للحديث عن أخطاء الأمة السابقة، وكل هذا الكلام لكي ننتبه ونتجنب الوقوع في أخطائهم.
أخطاء الأمة السابقة
وتبدأ الآيات التي تصف أخطاء بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱلله جَهْرَةً (55)لأنهم أمة مادية للغاية وكأنَّ الخطأ الجسيم الذي قد تقع به أي أمة ويكون سبباً في استبدالها هو طغيان المادية فيهاً، ومعنى المادية أنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا أمراً ملموساً. وهنا نتذكر أول صفة للمتقين في بداية السورة (ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ (2).
وتمضي الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل والموبقات التي ارتكبوها كقتل الأنبياء بغير الحق، وعصيانهم وكفرهم بآيات الله، واعتداء أصحاب السبت وتحايلهم على آيات الله، إلى أن تصل بنا الآيات إلى القصة المحورية: قصة البقرة.
لماذا سميت السورة بالبقرة؟
قد يتساءل البعض لماذا سميت هذه السورة بسورة البقرة؟
قد يجيب البعض بأنها سميت كذلك لأنّ قصة البقرة جاءت في هذه السورة، مع العلم بأنَّ هذه السورة قد جاء بها قصص كثيرة فلماذا سميت السورة باسم هذه القصة دون غيرها؟ إنّ قصة البقرة قد جسّدت الأخطاء الأساسية الكبرى لبني إسرائيل، فسميت السورة باسمها لكي يتذكر المسلم المسؤول عن الأرض هذه الأخطاء ويتجنبهافتجد فى القصه ما يلى .....