مما أنعمه الله على هذا العبد الضعيف عقل وفكر يستنير بهما دروب الحياة ، ويميز بهما بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين الخير والشر ، وجعلهما محلاً للجزاء والعقاب ، ومرمى للثناء والذم ، بواسطتهما يخطط لمستقبل حياته ، ويستعين بهما لتنوير الأمة طريقها ، والنهوض بها ، وبحبلهما يساهم في إنقاذ من تاه ونسلخ مع الأمواج إلى بر الأمان . ولهذا أثنى الله على أولي الألباب السليمة ، وأصحاب العقول النيرة ، وحث سبحانه على التفكر والتدبر تارة ، وأمر بهما تارة أخرى في أكثر من موضع من كتابه من ذلك قوله تعالى :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} "سورة آل عمران ، 190" . وقال تعالى :{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } " سورة ص ، 29" . وقال تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ }" سورة العنكبوت ، 20" . وبالعقل إما أن يرتفع إلى أعلى عليين ، أو أن ينحط إلى أسفل سافلين ، ومن ثم لا يكون بينه وبين البهائم العجماوات فرق وميزة إن لم تكن أفضل وأعلى ، قال عز من قائل : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف. وقال عمن عطل عقله ولم يستفد منه ؛ حيث لم يرشده إلى نجاته : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} " سورة البقرة : 7 ". والعقل السليم الذي يكون به نجاة المرء في الدارين ، هو من استقاء نوره من نور الله ، على ظهر التسليم والاستسلام . قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}" النــور : 35" . قال ابن القيم : فهذا نور الفطرة على نور الوحي ، وهذا حال القلب الحي الواعي ، فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن ، فيجدها كأنها قد كتبت فيه ، فهو يقرأها عن ظهر قلب ، ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد ، واعي القلب ، كامل الحياة ، فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل ، ولم تبلغ حياة قلبه ، ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحيّ الواعي ، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام ، وقلبه لتأمله ، والتفكير فيه ، وتعقل معانيه فيعلم حينئذ أنه الحق . المفكر لا ينتفع بما وهبه الله من تفكير ووعي حقاً ؛ إلا من عرف نفسه ، ووقف بها عند قدرها ، ولم يتجاوز إلى ما ليس له ، ولم يتعدّ طوره واختصاصه ، ولم يقل هذا لي ، وتيقن أن هذا الفتح والإلهام من الله ، وبالله ، فهو المان به ابتداءً ، واستادمة ، وزاده ذلاً لله وانكساراً ، وخشية ومحبة وخوفاً ورجاً. وأنه هو المستحق للحمد والثناء . قال يحيى بن معاذ : من عرف نفسه عرف ربه . وحكي أن بعض الحكماء كتب على باب بيته : إنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه ، ووقف بها عند قدرها ، فمن كان كذلك فليدخل و إلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة . ومع عبقرية هذه العقول إلا أن العجز يرد عليها ، فلها منتهى محدداً تقف عنده ، فإذا تعدده نتج عنه التيه والضلال ، والتخبط والحيرة ، لا سيما إذا كان هذا التعدي في مجال الغيبيات ، والعقائد والعبادات . قال الشاطبي : إن الله جعل للعقول في إدراكها حدّا تنتهي إليه لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب . ومن أدبيات ومقومات الفكر السليم : الوقوف والتسليم لنصوص الآيات القرآنية ، وصحيح السنة النبوية ، وعدم مخالفة الحق عن عمد وقصد ؛ لأن من اتصف بالعقل السليم لا بد أن يكون رائده الحق ، ومن كان الحق رائده فإن الله سيسره له قال : { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} " سورة الليل ، 5 ـ 7 " . قال ابن القيم : إنه لمن المعلوم عند جميع العقلاء أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم أعقل الخلق ، وعقولهم أكمل العقول ، ولهذا كان ما جاءوا به فوق عقول البشر ، ولهذا حصل على أيديهم من الخير مالم يحصل على أيدي سواهم وصلح من أحوال النفوس والقلوب وعمارتها بالخير وتزكيتها بالعلم والعمل ما لم يحصل لأحد غيرهم فعمارة القلوب والدنيا والآخرة على أيديهم ، وكل فساد في العالم عاماً وخاصاً ؛ فإنما سببه العدول عما جاءوا به ومخالفتهم ؛ فإذا استقريت جميع الشرور التي في العالم جزئياتها وكلياتها ، وكل فتنة وبلية ورزية رأيت سببها معصيتهم ، وكل خير ونعمة في الدنيا والآخرة فسببه طاعتهم واستقر هذا من زمن نوح إلى ساعتك التي أنت فيها ، وما عذبت به الأمم من أنواع العذاب ، وما جرى على هذه الأمة حتى ما أصيب به المسلمون مع نبيهم يوم أحد كان سببه معصية أمره ، وللعاقل البصير عبرة في نفسه وأحواله خاصة فهذا شأن هذه العقول الزاكية الكاملة . ومن هذه الأدبيات الفكر في مصالح المعاد ، وكيفية الحصول عليها ، ودفع مفاسد المعاد ، وكيفية اجتنابها ، والفكر في مصالح الدنيا ، وفي مفاسدها والبعد عن أسبابها . قال الله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}" الأعراف : 169" . فهم يأخذون حطام هذا الشيء الأدنى ، أي الدنيا ، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشا في الحكومات ، وعلى تحريف الكلام ، فهذا هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق ، وهو يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه على خلاف ذلك . وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا ، فلا يحملهم حبُّ الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة . ومن هذه الأدبيات والمقومات طلب الحق وتحريه ، وإتباع الدليل والالتزام به ، قال الله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} " يونس ، 32 " . فالله سبحانه بين هنا أنه ليس هناك منزلة ثالثة بين الحق والباطل . والحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه . ومن هذه الأدبيات أن يكون على درجة من الوعي ، يستطيع من خلاله دحض الشبه ، والحيلولة دون الوقوع فريسة للشهوات ،ويقظة ونباهة لمستغلي العقول ، والاستخفاف بها بأساليب ملتوية ، وشعارات براقة. ولقد قيل : من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته . ومتى غذيَ القلب بالتذكر ، وسُقي بالتفكر ، ونُقي من الفساد ، رأى العجائب ، وألهم الحكمة . ولهذا كان من لوازم الفكر ونضجه سلامة القلب وطهارته من جميع الشوائب والآفات ، قال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} " الأعراف ، 179". فلهذا صار العقل السليم والقلب السليم بينهما تلازم واتصال ؛ فمتى وجد أحدهما وجد الآخر ، وبانعدام أحدهما انعدام الكل . قال تعالى { وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} "سورة الشعراء ، 87 ـ 89" . ومما يزيد التفكير تفكيراً والوعي وعياً العلم ورقي الذات مع العمل والإخلاص معاً ، ولو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب ، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين . ولا يمكن أن يكون تفكيره صافياً ، ووقاداً إلا بعدما يكون بعيداً عن المؤثرات التي تجنح بالتفكير عن جادة الصواب ؛ وخلوه من العوائق التي تعوقه عن قول الحق وقبوله كالكبر ، والحسد ، واتباع الهوى ، وتحكيم العقل وتقديمه على النص الشرعي ، وحب الدنيا وشهواتها .... لأن قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده فإذا كان وعاء الفكر ممتلئاً بسلبيات وأخلاق يترفع عنها صاحب الفكر السوي ، والعقل الناضج ، فلذا لابد من التخلية قبل التحلية . ومتى ما كان الوعاء يحتوي على نور من الله ، ومشكاة من النبوة ، ومنهجاً من الرعيل الأول ، وسالماً من الشبهات والشهوات أصبح صاحبه عنصر بناء في مجتمعه ، لا معول هدم ، واستفادة منه الأمة خير إفادة ، وأثمر إضاءات تستنير بها الأمة جيلاً بعد جيل . والعكس بالكعس ؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح . ومتى ما سلك المرء طريق هذه الأدبيات والمقومات التي تنتهي بالمرء أن يكون صاحب علق سليم ليس بحاجة للمقولة الشهيرة " العقل السليم ، بالجسم السليم " . وغير كاف في اتصاف المرء بالذكاء الخارق ، والفهم الثاقب ، والعقلية الفذة نجاحه في الحياة الدنيا ، وسلامة منهجه وطرحه ، ونجاة في الآخرة ، فلا بد مع الذكاء زكاة النفس بإيمان بالله ، وطاعته ، ومتابعة رسوله ، وتزكيتها بالعلم الصافي ، والعمل الخالص ، مع الاتصاف بأدبيات العقلية السليمة ، ومقوماتها ، قال الله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}" الشمس ، 9ـ 10" . ولهذا لم اتكأ كثير من أصحاب العقول الفذة على الذكاء والفطنة ، واتخذ ذلك مبرراً للدخول في علم الكلام والفلسفة ، والنظر فيمن عند الغير ، مع انعدام القدرة التي يستطيع من خلالها تميز الخير من الشر ، والمستقيم من السقيم ؛ لم يشعر إلا وقد انجرف مع سيل الشبه ، وتراكمت عليه الأهواء ، فعلقت به فلم يستطيع الانفكاك منها فضل وأضل . ولقد قيل لهؤلاء : أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاة . فدعوة جادة إلى عقل سليم وفكر نير ، مع طهارة قلب وزكاة نفس . وتحذير من أن يتمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك ، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه ، وينفذ إليك وساوسه وأفكاره المضرة ، ويحول بينك وبين التفكر فيما ينفعك في الدارين .